موقف الراسخين في العلم والزائغين من المتشابه
إن موقف الراسخين في العلم من المتشابه وموقف الزائغين منه بينه الله تعالى فقال في الزائغين: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: من الآية 7] وقال في الراسخين في العلم: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: من الآية 7] فالزائغين يتخذون من هذه الآيات المشتبهات وسيلة للطعن في كتاب الله، وفتنة الناس عنه، وتأويله لغير ما أراد الله تعالى به، فيضلون، ويضلون.
ويقولون في المثال الأول: إن الله تعالى يدين حقيقتين على ما يليق بجلاله وعظمته، لا تماثلان أيدي المخلوقين، كما أن له ذات لا تماثل ذوات المخلوقين، لأن الله تعالى يقول: {ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: من الآية 11].
ويقولون في المثال الثاني: إن الحسنة والسيئة كلتاهما بتقدير الله عز وجل، لكن الحسنة سببها التفضل من الله تعالى على عباه، أما السيئة فعل العبد كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] فإضافة السيئة إلى العبد من إضافة الشيء إلى سببه، لا من إضافته إلى مقدرة، أما إضافة الحسنة والسيئة إلى الله تعالى فمن باب إضافة الشيء إلى مقدرة، وبهذا يزول ما يوهم الاختلاف بين الآيتين لإنفكاك الجهة.
ويوقون في المثال الثالث: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقع منه شك فيما أنزل إليه، بل هو أعلم الناس به، وأقواهم يقينا كما قال الله تعالى في نفس السورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: من الآية 104] المعنى إن كنت في شك منه فأنا على يقين منه، ولهذا لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، بل أكفر بهم وأعبد الله.
ولا يلزم من قوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: من الآية 94] أن يكون الشك جائزا على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو واقعا منه. ألا ترى قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] هل يلزم منه أن يكون الولد جائزا على الله تعالى أو حاصلا؟ كلا، فهذا لم يكن حاصلا، ولا جائزا على الله تعالى، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]
ولا يلزم من قوله تعالى: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: من الآية 147] {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة:147] أن يكون الامتراء واقعا من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن النهي عن الشيء قد يوجه إلى من لم يقع منه، ألا ترى قوله تعالى: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص:87] ومن المعلوم أنهم لم يصدون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن آيات الله، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقع منه شرك.والغرض من توجيه النهي إلى من لا يقع منه: التنديد بمن وقع منهم والتحذير من منهاجهم، وبهذا يزول الاشتباه، وظن ما لا يليق بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.